ما أصعب تلك اللحظة التى تشعر بها بالعجز عن مقاومة الأذى الواقع عليك بل الأكثر من ذلك بأنك تتقرب وتستجدي المعتدي عليك بل وتبذل قصارى جهدك في التودد والتقرب إليه
ما أقصده بالظبط هو أيام الدراسة التي كنت أعاني منها الآمرين وخصوصاً عند حصة الألعاب كما ذكرت من قبل ولكن المعاناة التي كنت أعانيها في حصة الألعاب كانت معانة نفسية، أما ما كنت أعانيه في الفصل فكانت معانة بدنية
فقد كنت محل سخرية زملائي جميعاً حتى المتعاطفين معي بعد وقت قصير لايقدرون على مقاومة غريزتهم والإنضمام لبقية الأولاد في مضايقتي، فقد كان هناك أولاد متخصصون في إيذائي، فأنا وعلى عكس كل زملائي الباقيين كنت أتمنى لو أن الحصة تمتد إلى الدهر كله ولاتنتهي فمع إنتهاء كل حصة تبدأ معاناتي ويبدأون هم في أفراحهم، فبمجرد خروج الأستاذ من الفصل، كانوا الأولاد ينقسمون نصفين
النصف الأول وهم الأقلية كانوا يتلذذون بمضايقاتي فخلال الدقائق الفاصلة بين كل حصة وحصة كان يقوم أحدهم وفي عينه ابتسامة صغيرة وطااااخ يقوم ضاربني على قفايا ويجري ويضحك الأولاد ويتحول الفصل كله وكأنهم قاعدين في المسرح، فأنظر للعيال الضاحكين وكان أعظم شئ ممكن عمله إني أقولهم بمنتهى الآسى على حالي: هو الواد ده مجنون ولا إيه؟؟
أو يقوم آخر بخطف الكراسة أو القلم مني ويفضلوا يرموها لبعضيهم،وأنا مع هذا كله أظل محافظاً على ابتسامتي، لكي لاتفلت مني دموعي فلا أستطيع إيقافها، ولكي لايظن هؤلاء الأغبياء بأنهم إنتصروا على، أما الأغلبية منهم فكانت تبدأ في سيل من الشتائم والتريقة على وكنت استمع إلى كلمات مثل: يا واد يا عجل يا فشلة ، وكانوا بيرضعوك إيه وإنت صغير؟؟(مكنوش يعرفوا إن السيريلاك هو اللي عمل ده كله)، أما الطامة الكبرى لما طلع كاراتيه جديد إسمه قلبظ مكنتش أعرف حكاية الكاراتيه وعندما وصلت للمدرسة كل ما أقابل واحد يقول لي: هو أبوك هو اللي عمل الكاراتيه ده؟؟وأنا مش فاهم حاجة لحد لما سمعت زمايلي ف الكانتين بيقولوا لعم شكري بتاع الكانتين: عاوزين كاراتيه قلبظ...فضلت قاعد في البيت أسبوع عامل نفسي عيان عشان ما أروحشي المدرسة ما هو أنا في نفس الوقت ماينفعش أقول لأمي ف البيت انا مش رايح المدرسة عشان سي قلبظ، المهم أنا قلت أقعد أسبوع في البيت يكون العيال نسيوا الموضوع.
الغريب في الموضوع واللي نسيت أن أذكره لكم من قبل(جل من لايسهو)، لم أكن بمفردي البدين في الفصل، ولكن كان هناك إثنان آخرين،ولعلك سوف تستغرب وبتقول في سرك: إشمعنى إنت يعني اللي حصل فيك كده؟؟
هو ده نفس السؤال اللي أنا سألته لنفسي وظللت أبحث عن إجابة عن ذلك السؤال، وبعد أسابيع من البحث
إكتشفت إن أبويا وأمي هما السبب
أيوة هما السبب، هما السبب لأنهم أحسنوا وتعبوا في تربيتي،وعلموني الصح من الغلط وإن ده عيب وده مش عيب
ففي الفترة التي كنت أبحث عن السبب في إضطهاد العيال ليا أنا بس مع إن هناك اثنان آخرين في نفس حجمي إن لم يكن أكبر، فوجدت أنهم كما كانوا يتمتعوا ببدانة في الجسم فقد كانوا يتمتعون ببذائة في اللسان أيضاً، فبمجرد تفكير أحد هؤلاء الحمقى في الإقتراب من أحدهم إلا نال وابل من الشتائم بطول برج إيفل تكفي لعائلته والعائلات المجاورة أيضاَ، فيقوم الواد المجني عليه وعلى عائلته بالإنكماش مثل الأرانب في فصل الشتاء ولا يفكر في الإقتراب منه مرة أخرى، يظل يبحث الواد المجني عليه عن شخص يفش غله فيه ويطلع عليه الشتيمة اللي أخدها كلها، فكان أول واحد يجول بخاطره هو أكيد كلكم عرفتوه وهو العبدلله الغلبان(الصدر الحنين)
وكنت أستسلم للهجوم معرفة بعجزي عن اللحاق بأحدهم وكنت أعرف بالخبرة أن مقاومة الهجوم قد تزيد من شدته ولذلك كنت أظل جالسا صامتا بجسمي المحشور فى التختة (رحم الله إمرئ عرف قدر نفسه)
وبرغم ذلك كله فضلت أتودد إليهم بكل طريقة، كنت أسلف أي واحد أى شىء عن طيب خاطر سندوتشا أو كراسة أو حتى قلما إذا نسى أحدهم قلمه فى الامتحان وكنت بأقوم بالإتصال بأى عيل غايب أمليه الحاجات اللي فاتته، وما إن أرى أحد هؤلاء الحمقى حتى أكلمه في موضوع يهمه، لكي ألهيه عني كنت أحدثهم عن صعوبة مادة العلوم مثلاً، أو أفتح معه موضوع عن شخص أعرف أنه لايحبه وأظل أذكر مساوئه وأظهر له أني متضامن معه في كرهي له
إلى أن جاء اليوم المشهود وظل حديث المدرسة لمدة أسابيع، فلقد تغيرت أبلة الألعاب وأتوا بأستاذ آخر بدلاً منها(طبعاً هتقولي إيه المشكلة في كده؟؟هاقولك أهو أصبر على رزقك)
وفي يوم حصة الألعاب نزل العيال كلهم مسرعين إلى حوش المدرسة، وأنا بدأت في ممارسة طقوس حصة الألعاب بشراء كيس شيبسي(لأني كنت مقاطع القلبظ) وأقعد على السلم واتفرج عليهم وهما بيلعبوا لحد ما الحصة تخلص، ولكن هيهات هيهات(تأتي الرياح بما لايشتهى التخان)، نادى عليا أستاذ الألعاب الجديد ودار هذا الحديث
المدرس: إنت يا بني مع الفصل ده؟؟
أهز رأسي بمعنى نعم أنا مع الفصل ده.
المدرس متعصباً: وأما إنت يا عجل مع الفصل ده قاعد بعيد ليه؟؟
لحظة واحدة لعلك أدركت وحدك منظر العيال بعد هذه الجملة، وشعوري أنا في الورطة دي
المدرس: إنت مش لابس لبس الألعاب ليه؟؟
أنا: أصل أنا مبعرفش ألعب كورة
المدرس: مفيش حاجة إسمها مبعرفش ألعب كورة المرة الجاية تيجي ومعاك لبس الألعاب وإلا هتترفد من المدرسة
رجعت بيتنا مش عارف أعمل إيه بالظبط؟؟وقلت في سري ده لسه فاضل أسبوع يبقى يحلها الحلال ساعتها، ولكن سبحان الله كان أسرع أسبوع مر على في حياتي.
وجاء اليوم المنتظر وأتت حصة الألعاب والعيال في منتهى الشوق واللهفة إنهم يشوفوني وأنا لابس لبس الألعاب
نسيت أقولكم إيه المشكلة إني ألبس لبس الألعاب، المشكلة إنه كان عبارة عن تي شيرت ضيق(بودي) يظهر كل التضاريس وشورت قصير
المهم الأستاذ ناداني : إنت مش لابس اللبس بتاعك ليه؟؟
وأنا أنظر إلى الأستاذ بنظرة إستعطاف إنه يرحمني ويعفيني من الحكاية دي ولكن كان أستاذ جلنف معنهوش إحساس
دخلت الحمامات وارتديت ملابس الألعاب بمنتهى البطئ أملاً في إنتهاء زمن الحصة ولكن كانت حصة ولا حصة مصر في مياه النيل
ظل العيال لايلعبون منتظرين لحظة خروجي من الحمام فبالنسبة لهم رؤيتي بلبس الألعاب ممتع بكثير عن اللعب بالكورة
وما إن خرجت عليهم حتى انفجر العيال من الضحك ومعهم الأستاذ وكل من في الحوش
ظللت متماسكاً للحظات ولكن لم أستطع التحكم في نفسي فانفجرت باكياً بكاء ليس له مثيل بكاء سنين من الذل والتجريح والإهانة وانطلقت مسرعاً وكأني خسيت 50كجم في لحظة منطلقاً وراء العيال ولا أري شئ أمامي من الدموع اللي في عيني فانهمرت عليهم بوابل من السباب والشتائم لم يكن لها مثيل ولم ترد في أي معجم للشتائم لدرجة أن العيال كانوا مذهولين من هول الشتائم، وضاع تعب أبويا وأمي في تربيتي كل هذه السنين هباءاً منثوراً.
وكان هذا المشهد هو آخر مشهد لي في المدرسة وهو نهاية علاقتي بالمدارس وبالتعليم تماماً
آه نسيت أقولكم أنا دلوقتي بقيت جزار قد الدنيا، وبالليل تاجر مخدرات!!
وعلى مدى هذه الحياة نصحوني الناس بعمل حاجة كده مش عارف اسمها رشيم ولا رجيم ما علينا المهم نصحوني إني أكل خضروات كتير وابعد عن السمين
ولكني مؤمن بشئ واحد لو كان الخضار بيخسس بصحيح لتحولت الأفيال إلى هياكل عظمية فمن المعروف أن الأفيال لاتأكل غير الخس والجزر والأعشاب وورق الشجر
وأنا أفضل أنا أموت بتصلب في الشرايين أرحم من إني أكل الأكل بتاع الرجيم طعام أهل النار (لايسمن ولا يغني من جوع)
أخيراً أريد أن أوضح بعض الملاحظات
فهذه الحكاية هى نموذج مصغر للشعب المصري
فالعيال هم الضغوط اليومية على الشعب من إرتفاع أسعار إلى رشوة وبطالة
أما الأب والأم فهم القيم المغروسة بداخل كل واحد ولكن هذه القيم مغروسة بقدر معين يمكن ان تنتهي
وأما الأستاذ فهو النظام المصري: الذي لايرحم ولا يراعي الظروف والضغوط ولكن بيزود هذه الضغوط
رسالة الى الوالي: الضغط يولد الإنفجار ، وإتقوا شر الحليم إذا غضب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق